تردد فى الآونة الأخيرة فى وسائل الإعلام وعلى صفحات التواصل الاجتماعى مصطلح الأشاعرة، وكأنه مصطلحا غامض المعنى خفى الدلالة، وقد أحدث هذا الغموض خللا فى الفهم لدى طوائف من المتابعين، وكم نود من السادة المثقفين والباحثين ومن أهل العلم إذا رددوا فى وسائل الإعلام مصطلحًا ما، تخفى دلالته على عامة الناس أن يشرحوا دلالته بطريقة علمية وبسيطة مطابقة للواقع، فالأشاعرة وإن كان مصطلحا قد تغيب دلالته على كثير من الناس إلا أنه لا يعنى شيئا سوى معتقد أهل السنة والجماعة الذى يعتقده أغلب المسلمين، والذى تعتمده المعاهد العلمية العريقة لأهل السنة والجماعة فى شتى بقاع الأرض كالأزهر الشريف والقرويين وجامع الزيتونة.. إلخ.. والأشاعرة نسبتهم إلى إمام أهل السنة والجماعة الإمام أبى الحسن الأشعرى الذى ينحدر نسبة من نسل الصحابى الجليل أبى موسى الأشعرى، ولقد عاش أبو الحسن فى القرن الثالث الهجرى وتوفى فى أوائل القرن الرابع الهجرى فى فترة زمنية شهدت الكثير من الصراعات الفكرية وانتشار الفرق التى حادت عن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام فى العقائد، فكانت هناك فرقة المعتزلة بسمتها العقلانى الموغل فى العقلانية إيغالا أوجد حالة غير مبررة من التناقض بين نصوص الوحى الشريف وبين العقل، مما أوقعهم فى إنكار معجزات الأنبياء وإنكار صفات الله تعالى ومنها صفة الكلام التى ترتب على إنكارها القول بخلق القرآن الكريم، وهى من أبشع فتن التاريخ الإسلامى التى استعمل فيها الحكام الذين اعتنقوا مذهب المعتزلة أبشع أنواع التعذيب والتنكيل بحق العلماء وأئمة الحديث والسنة حتى يعتقدوا مذهب المعتزلة فى خلق القرآن، وما روته لنا كتب التاريخ فى تعذيب الإمام أحمد فى هذه الفتنة أمر تقشعر منه الأبدان وتذهل منه العقول، ولقد فهم المعتزلة أن مقتضى مسؤولية العبد عن أفعاله فى الدنيا والآخرة أن الله تعالى لا يتدخل بالكلية فى خلق أفعال العباد، وقالوا إن العبد هو المؤثر الوحيد فى إيجاد أفعاله وليس للقدرة الإلهية أدنى تدخل فى هذا وفى هذا الوقت كانت هناك تيارات مناقضة للتيار العقلانى وهى تيارات الظاهرية النصية التى ترفض أى اجتهاد أو تأويل لظاهر النص مهما كان هذا الظاهر قد يفهم بطريقة غير صحيحة ومهما كان فى هذا الفهم السقيم من نسبة القبح أو الصفات التى لا تليق بالذات الإلهية لله تعالى ومهما كان هذا التأويل مستندا إلى قواعد اللغة العربية ومهما كان مستندا إلى قواطع العقل والشرع معا، فالتأويل عندهم جريمة نكراء لا تغتفر وتعتبر إهدارا للنص الشرعى ولقد وقعت هذه الفرقة قى مغالطات عقدية شديدة أبشعها التجسيم والتشبيه فنسبوا لله تعالى كثيرا من صفات البشر التى لا تليق بذات الله تعالى وجلاله، وفى خضم هذا الجو المتلاطم من الأفكار والانحرافات أسس الإمام أبو الحسن الأشعرى منهجه الاستدلالى فى العقيدة لأنه لم يأت بعقيدة جديدة خاصة به بل أتى بمنهج استدلالى عقلى على عقيدة النبى صلى الله عليه وسلم، الموجودة فى الكتاب والسنة والتى تعتمد فى أساسها على أن العقل من عند الله تعالى كما أن النقل أى القرآن الكريم والسنة المطهرة هو كذلك من عند الله تعالى والعقل وسيلة لفهم النقل ولا يمكن حتى نمضى على نهج صحيح فى أمور الدين لا سيما فى العقائد أن نصادر أحدهما لحساب الآخر فقام منهج الأشعرى على احترام النص لأنه من عند الله تعالى وعلى احترام العقل وعلى التوفيق بينهما، وقضى أبو الحسن الأشعرى على تهورات الفرق الجامحة بالعقل والفرق الجامدة على ظاهر النص، وقام الفكر الأشعرى على القول بالتنزيه المطلق لله تعالى عن صفات المخلوقين، وقال المذهب الأشعرى أيضًا بأن العبد مسؤول مسؤولية كاملة عن أفعاله الاختيارية من الخير أو الشر مع ضرورة الاعتقاد بأن هذه الأفعال لا تخرج بحال عن مخلوقية الله تعالى وتأثيرها فى إيجاد كل ذرة فى هذا الكون، ونظرا لتوسط أبى الحسن واعتداله وقضائه على كثير من فتن واختلافات الفرق الموجودة فى هذا الزمان وإحيائه ما كان علىه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام من عقيدة قرآنية صافية مؤيدة ومبرهنة بدلائل العقل القطعية انتشر مذهب أبى الحسن انتشارا واسعا ولاقى قبولا عاما عند أهل العقل وأهل الحديث معا ورجع كثير من أصحاب الآراء المتطرفة عن أرائهم لما وجدوه من توسط وعقلانية واعتدال وتمسك بالسنن والآثار فى منهج الأشعرى وتمدد المنهج الأشعرى فى سائر علوم الشريعة الإسلامية وسار عليه أغلب علماء الإسلام من فقهاء ومحدثين ومفسرين ولغويين حتى لم يشذ عنه إلا النادر القليل من علماء أهل السنة، ولما قامت النهضة العلمية الحديثة وأسست الكليات والمعاهد الشرعية كالأزهر الشريف جامعا وجماعة ثم القرويين جامعا وجامعة ثم الزيتونة جامعا وجامعة ثم الجامع الأموى بالشام والمحاضر العلمية بشنقيط كلها سارت على نفس النهج فى أصول العقيدة المؤسسة على العقل والنقل معا، فالعقيدة الأشعرية ليست عقيدة مغايرة لأهل السنة والجماعة غاية الأمر أن مصطلح أهل السنة والجماعة هو المصطلح السهل الدارج المستعمل لدى جميع الناس، أما مصطلح الأشاعرة فهو مصطلح أكاديمى علمى لا يعرف معناه الدقيق إلا المتخصصون، وأهم ما يميز العقيدة الأشعرية أنها لا تقبل الأدلة الظنية فى أصول العقائد مهما كانت صحيحة لأن الاعتقاد لابد وأن يبنى على اليقين بخلاف الأمور الفقهية الفرعية فمن المقبول جدا لدى جميع العلماء أن يقبل فيه الدليل الذى وصل إلى درجة الصحة فى الإسناد ولو من عدة طرق.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة